الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال القرطبي: قوله تعالى: {مُنيبينَ إلَيْه}.اختلف في معناه، فقيل: راجعين إليه بالتوبة والإخلاص.وقال يحيى بن سلام والفرّاء: مقبلين إليه.وقال عبد الرحمن بن زيد: مطيعين له.وقيل: تائبين إليه من الذنوب؛ ومنه قول أبي قيس بن الأسْلَت:والمعنى واحد؛ فإن ناب وتاب وثاب وآب معناه الرجوع.قال الماورديّ: وفي أصل الإنابة قولان: أحدهما: أن أصله القطع؛ ومنه أخذ اسم الناب لأنه قاطع؛ فكأن الإنابة هي الانقطاع إلى الله عزّ وجلّ بالطاعة.الثاني: أصله الرجوع؛ مأخوذ من ناب ينوب إذا رجع مرة بعد أخرى؛ ومنه النَّوْبة لأنها الرجوع إلى عادة.الجوهري: وأناب إلى الله أقبل وتاب.والنَّوْبة واحدة النُّوَب، تقول: جاءت نَوْبتك ونيابتك، وهم يتناوبون النَّوْبة فيما بينهم في الماء وغيره.وانتصب على الحال.قال محمد بن يزيد: لأن معنى: أَقمْ وَجْهَكَ فأقيموا وجوهكم منيبين.وقال الفرّاء: المعنى فأقم وجهك ومن معك منيبين.وقيل: انتصب على القطع؛ أي فأقم وجهك أنت وأمتك المنيبين إليه؛ لأن الأمر له، أمرٌ لأمته؛ فحسن أن يقول منيبين إليه، وقد قال الله تعالى: {يا أيها النبي إذَا طَلَّقْتُمُ النساء} [الطلاق: 1].{واتقوه} أي خافوه وامتثلوا ما أمركم به {وَأَقيمُوا الصلاة وَلاَ تَكُونُوا منَ المشركين} بيّن أن العبادة لا تنفع إلا مع الإخلاص؛ فلذلك قال: {وَلاَ تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ} وقد مضى هذا مبينًا في النساء والكهف وغيرهما.{منَ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ} تأوّله أبو هريرة وعائشة وأبو أمامة: أنه لأهل القبلة من أهل الأهواء والبدع.وقد مضى في الأنعام بيانه.وقال الربيع بن أنس: الذين فرّقوا دينهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ وقاله قتادة ومَعْمَر.وقرأ حمزة والكسائي: {فَارقُوا دينَهم} وقد قرأ بذلك عليّ بن أبي طالب؛ أي فارقوا دينهم الذي يجب اتباعه، وهو التوحيد.{وَكَانُوا شيَعًا} أي فرقًا؛ قاله الكَلْبيّ.وقيل أديانًا؛ قاله مقاتل.{كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ فَرحُونَ} أي مسرورون معجبون، لأنهم لم يتبيّنوا الحق وعليهم أن يتبيّنوه.وقيل: كان هذا قبل أن تنزل الفرائض.وقول ثالث: أن العاصي لله عز وجل قد يكون فرحًا بمعصيته، فكذلك الشيطان وقُطّاع الطريق وغيرهم، والله أعلم.وزعم الفرّاء أنه يجوز أن يكون التمام {وَلاَ تَكُونُوا منَ الْمُشْركينَ} ويكون المعنى: من الذين فارقوا دينهم {وَكَانُوا شيَعًا} على الاستئناف، وأنه يجوز أن يكون متصلًا بما قبله.النحاس: وإذا كان متصلًا بما قبله فهو عند البصريين على البدل بإعادة الحرف؛ كما قال جل وعز: {قَالَ الملأ الذين استكبروا من قَوْمه للَّذينَ استضعفوا لمَنْ آمَنَ منْهُمْ} [الأعراف: 75] ولو كان بلا حرف لجاز.قوله تعالى: {وَإذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ} أي قَحْط وشدّة {دَعَوْا رَبَّهُمْ} أن يرفع ذلك عنهم {مُّنيبينَ إلَيْه} قال ابن عباس: مقبلين عليه بكل قلوبهم لا يشركون.ومعنى هذا الكلام التعجب، عجب نبيّه من المشركين في ترك الإنابة إلى الله تعالى مع تتابع الحجج عليهم؛ أي إذا مسّ هؤلاء الكفارَ ضرٌّ من مرض وشدّة دعوْا ربّهم؛ أي استغاثوا به في كشف ما نزل بهم؛ مقبلين عليه وحده دون الأصنام، لعلمهم بأنه لا فرج عندها.{ثُمَّ إذَآ أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} أي عافية ونعمة.{إذَا فَريقٌ مّنْهُمْ برَبّهمْ يُشْركُونَ} أي يشركون به في العبادة.قوله تعالى: {ليَكْفُرُوا بمَآ آتَيْنَاهُمْ} قيل: هي لام كي.وقيل: هي لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما قال جل وعز: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].{فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} تهديد ووعيد.وفي مصحف عبد الله {وَليتَمَتّعوا} أي مكَّناهم من ذلك لكي يتمتعوا، فهو إخبار عن غائب؛ مثل: {ليَكْفُرُوا}.وهو على خط المصحف خطاب بعد الإخبار عن غائب؛ أي تمتعوا أيها الفاعلون لهذا.قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهمْ سُلْطَانًا} استفهام فيه معنى التوقيف.قال الضحاك: {سُلْطَانًا} أي كتابًا؛ وقاله قتادة والربيع بن أنس.وأضاف الكلام إلى الكتاب توسُّعًا.وزعم الفرّاء أن العرب تؤنّث السلطان؛ تقول: قضَتْ به عليك السلطان.فأما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز لأنه بمعنى الحجة؛ أي حجة تنطق بشرككم؛ قاله ابن عباس والضحاك أيضًا.وقال عليّ بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد قال: سُلطان جمع سليط؛ مثل رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجمع وتأنيثه على معنى الجماعة.وقد مضى في آل عمران الكلام في السلطان أيضًا مستوفى.والسلطان: ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمرًا يستوجب به عقوبة؛ كما قال تعالى: {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتيَنّي بسُلْطَانٍ مُّبينٍ} [النمل: 21]. اهـ. .قال الألوسي: {مُّنيبينَ إلَيْه} أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبًا إذا رجع مرة بعد أخرى، ومنه النوب أي النحل سميت بذلك لرجوعها إلى مقرها، وقيل: أي منقطعين إليه تعالى من الناب السن خلف الرباعية لما يكون بها من الانقطاع ما لا يكون بغيرها.وتعقب بأنه بعيد لأن الناب يائي وهذا واوى، وقد تقدم غير بعيد عدة أقوال في وجه نصبه، وزاد عليها في البحر القول بكونه نصبًا على الحال من {الناس} في قوله تعالى: {فَطَرَ الناس} [الروم: 30] وقدمه على سائر الأقوال وهو كما ترى، وتقدم أيضًا ما قيل في عطف قوله تعالى: {واتقوه} أي من مخالفة أمره تعالى: {وَأَقيمُوا الصلاة وَلاَ تَكُونُوا منَ المشركين} المبدلين لفطرة الله سبحانه تبديلا، والظاهر أن المراد بهم كل من أشرك بالله عز وجل، والنهي متصل بالأوامر قبله، وقيل: باقيموا الصلاة، والمعنى ولا تكونوا من المشركين بتركها وإليه ذهب محمد بن أسلم الطوسي وهو كما ترى، وقوله تعالى: {منَ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ} بدل من {المشركين} [الروم: 31] بإعادة الجار، وتفريقهم لدينهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم، وقيل: اختلافهم في اعتقاداتهم مع اتحاد معبودهم، وفائدة الإبدال التحذير عن الانتماء إلى حزب من أحزاب المشركين ببيان أن الكل على الضلال المبين.وقرأ حمزة والكسائي {فارقوا} أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم {دينَهُمْ وَكَانُوا شيَعًا} أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله {كُلُّ حزْبٍ بمَا لَدَيْهمْ} من الدين المعوج المؤسس على الرأس الزائغ والزعم الباطل {فَرحُونَ} مسرورون ظنًا منهم أنه حق، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم كونهم شيعًا، وقيل: في موضع نصب على أنها صفة {شيَعًا} بتقدير العائد أي كل حزب منهم، وزعم بعضهم كونها حالًا.وجوز أن يكون {فَرحُونَ} صفة لكل كقول الشماخ:والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى: {منَ الذين فَرَّقُوا دينَهُمْ} فيكون منقطعًا عما قبله، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله: وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله: وما قيل: إنه إذا وصف به {كُلٌّ} دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل.{وَإذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ} أي شدة {دَعَوْا رَبَّهُمْ مُّنيبينَ إلَيْه} راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عز وجل من الأصنام وغيرها {ثُمَّ إذَا أَذَاقَهُمْ مّنْهُ رَحْمَةً} خلاصًا من تلك الشدة {إذَا فَريقٌ برَبّهمْ} الذي كانوا دعوه منيبين إليه {يُشْركُونَ} أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات؛ وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير {ضُرٌّ وَرَحْمَةً} للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة، و{ثم} للتراخي الرتبى أو الزماني.{ليَكْفُرُوا بمَآ ءاتيناهم} اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له، وقيل: للأمر وهور للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه: {فَنَمَتَّعُوا} فإنه أمر تهديدي، واحتمال كونه ماضيًا معطوفًا على {يشركون} لا يخفي حاله، والفاء للسبيية، والتمتع التلذذ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب {أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وبال تمتعكم.وقرأ أبو العالية {فيمتعوا} بالياء التحتية مبنيًا للمفعول وهو معطوف على {يَكْفُرُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} بالياء التحتية أيضًا، وعن أبي العالية أيضًا {فيتمتعوا} بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على {أَن يَكْفُرُوا} أيضًا، وعن ابن مسعود {وَليَتَمَتَّعُوا} باللام والياء التحتية وهو عطف على {ليَكْفُرُوا}.{أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهمْ سلطانا} التفات من الخطاب إلى الغيبة إيذانًا بالاعراض عنهم وتعديدًا لجناياتهم لغيرهم بطريق المباثة، و{أَمْ} منقطعة، والسلطان الحجة فالإنزال مجاز عن التعليم أو الإعلام، وقوله تعالى: {فَهُوَ يَتَكَلَّمُ} بمعنى فهو يدل على أن التكلم مجاز عن الدلالة، ولك أن تعتبر هنا جميع ما اعتبروه في قولهم: نطقت الحال من الاحتمالات، ويجوز أن يراد بسلطانًا ذا سلطان أي ملكًا معه برهان فلا مجاز أولًا وآخرًا.وجملة {هُوَ يَتَكَلَّمُ} جواب للاستفهام الذي تضمنته {أَمْ} إذ المعنى بل أأنزلنا عليهما سلطانًا فهو يتكلم {بمَا كَانُوا به يُشْركُونَ} أي بإشراكهم بالله عز وجل، وصحته على أن {مَا} مصدرية وضمير {به} له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن ما موصولة وضمير {به} لها والباء سببية، والمراد نفى أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم. اهـ. .قال ابن عاشور: {مُنيبينَ} حال من ضمير {فَأقمْ} [الروم: 30] للإشارة إلى أن الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم مراد منه نفسه والمؤمنون معه كما تقدم.والمنيب: الملازم للطاعة.ويظهر أن معنى أناب صار ذا نوبة، أي ذا رجوع متكرر وأن الهمزة فيه للصيرورة، والنوبة: حصة من عمل يتوزعه عدد من الناس وأصلها: فَعْلَة بصيغة المرة لأنها مرة من النَّوْب وهو قيام أحد مقام غيره، ومنه النيابة، ويقال: تناوبوا عمل كذا.وفي حديث عمر: كنت أنا وجار لي من الأنصار نتناوب النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل يومًا وأنزل يومًا الحديث، فإطلاق المنيب على المطيع استعارة لتعهد الطاعة تعهدًا متكررًا، وجعلت تلك الاستعارة كناية عن مواصلة الطاعة وملازمتها قال تعالى: {إن إبراهيم لحليم أوّاه مُنيب} في سورة هود (75).وفسّرت الإنابة أيضًا بالتوبة.وقد قيل: إن ناب مرادف تاب، وهو المناسب لقوله في الآية الموالية {دعوا ربهم منيبين إليه} [الروم: 33].والأمر الذي في قوله: {واتقوه وأقيموا الصلاة} مستعمل في طلب الدوام.و{الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا} هم المشركون لأنهم اتخذوا عدة آلهة.وإنما كررت {من} التبعيضية لاعتبار الذين فرقوا دينهم بدلًا من المشركين بدلًا مطابقًا أو بيانًا، فإظهار حرف الجر ثانية مع الاستغناء عنه بالبدلية تأكيد بإظهار العامل كما تقدم في قوله تعالى: {تكون لنا عيدًا لأولنا وءاخرنا} [المائدة: 114] وشأن البدل والبيان أن يجوز معهما إظهار العامل المقدر فيخرجان عن إعراب التوابع إلى الإعراب المستقل ويكونان في المعنى بدلًا أو بيانًا ولهذا قال النحاة: إن البدل على نية تكرار العامل.وقال المحققون: إن البدل معرب بالعامل المقدر، ومثله البيان وهما سيان.وتقدم الكلام على معنى {الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا} في آخر سورة الأنعام (159).وقرأ الجمهور {فرَّقوا} بتشديد الرّاء.وقرأه حمزة والكسائي {فارقوا دينهم} بألف بعد الفاء فالمراد بالدين دين الإسلام.ومعنى مفارقتهم إياه ابتعادُهم منه، فاستعيرت المفارقة للنبذ إذ كان الإسلام هو الدين الذي فطر الله عليه الناس فلما لم يتبعوه جعل إعراضهم عنه كالمفارقة لشيء كان مجتمعًا معه، وليس المراد الارتداد عن الإسلام.والشيع: جمع شيعة وهي الجماعة التي تشايع، أي توافق رأيًا، وتقدم قوله تعالى: {ثم لَنَنْزعَنَّ من كل شيعة} في سورة مريم (69).والحزب: الجماعة الذين رأيهم ونزعتهم واحدة.وما لديهم هو ما اتفقوا عليه.
|